مراحل تطور الرسم عند الطفل

يُعد الرسم وسيلة فريدة من نوعها للتعبير عن الذات عند الأطفال، تتجاوز حدود اللغة وتُتيح لهم استكشاف العالم من حولهم بطريقتهم الخاصة. ليس الرسم مجرد نشاط ترفيهي، بل هو نافذة نفسية ومعرفية تكشف عن مراحل نمو الطفل من الناحية الحركية والإدراكية والانفعالية. تتطور مهارات الرسم لدى الأطفال بشكل متدرج ومنظم، ويُعد تتبع هذه المراحل أمرًا مهمًا لفهم تطور الشخصية والإدراك والقدرات العقلية لديهم.

يُظهر الطفل عبر رسوماته فهمه للعالم، ويمر بمراحل نمائية متعاقبة، تبدأ من خربشات غير منظمة إلى رسومات تُعبر عن مفاهيم وتصورات متقدمة. يختلف توقيت هذه المراحل من طفل لآخر، لكنها تمر عمومًا بمراحل متشابهة تتقاطع مع نمو الدماغ وتطور المهارات الحسية والحركية والمعرفية.

أهمية الرسم في النمو الطفولي

الرسم ليس فقط مؤشرًا على نمو الطفل بل هو أيضًا وسيلة تعليمية وعلاجية. تساعد أنشطة الرسم على تطوير العضلات الدقيقة، وتعزز التناسق بين العين واليد، كما تفتح المجال أمام التعبير عن المشاعر الداخلية والخيال. وقد بيّنت دراسات متعددة أن الأطفال الذين يُمنحون فرصًا متكررة للرسم يُظهرون مستويات أعلى من الإبداع والقدرة على حل المشكلات. الرسم يُنمّي كذلك المهارات البصرية-الفراغية (Visual-Spatial Skills) التي تلعب دورًا محوريًا في التفكير الهندسي والرياضي لاحقًا.

العوامل المؤثرة في تطور الرسم عند الطفل

قبل التطرق إلى المراحل المختلفة لتطور الرسم، من المهم الإشارة إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في مدى تطور الطفل في هذا المجال:

• العمر الزمني والنمائي: يُشكل النضج العقلي والجسدي نقطة انطلاق لتطور الرسم.

• البيئة الأسرية: الدعم العاطفي وتوفير الأدوات المناسبة يلعب دورًا في التحفيز.

• الخبرات البصرية: كلما كان الطفل أكثر تعرضًا للمثيرات البصرية والفنية، تطورت رسوماته بشكل أسرع.

• الجانب النفسي والعاطفي: تميل بعض الرسومات إلى التعبير عن الحالات النفسية للطفل مثل القلق أو الفرح.

• الثقافة: تختلف عناصر الرسم وتفاصيله تبعًا للسياق الثقافي والاجتماعي الذي ينشأ فيه الطفل.

مراحل تطور الرسم عند الطفل

تشير أبحاث التربية الفنية والنمو النفسي (مثل دراسات “لوينفيلد” و”كيلوغ”) إلى أن الطفل يمر بمراحل رئيسية في تطور قدراته على الرسم. فيما يلي تفصيل لهذه المراحل، مع الإشارة إلى الخصائص النموذجية لكل مرحلة:

1. مرحلة ما قبل الرسم (من الميلاد إلى سنتين)

في هذه المرحلة لا يستطيع الطفل الرسم بالمعنى الحرفي، لكنه يبدأ في تطوير السيطرة الحركية والبصرية التي تُعد أساسًا للرسم لاحقًا. تبدأ هذه المرحلة بتفاعل الطفل مع الألوان والأشكال من خلال اللعب، حيث يستمتع بالنظر إلى الألوان الزاهية وتتبعها بعينيه.

يُظهر الطفل أولى محاولاته للتحكم في القلم أو الطباشير في نهاية السنة الثانية من عمره، حيث يقوم بحركات عشوائية على الورق لا تحمل أي دلالة رمزية لكنها تؤسس لمهارات الرسم في المستقبل.

السمات المميزة:

• غياب الرمزية أو المعنى في الحركات.

• سيطرة حركية ضعيفة وغير موجهة.

• استمتاع بصري وعضلي بالحركة وليس الناتج.

2. مرحلة الخربشة (من 2 إلى 4 سنوات)

تُعد هذه المرحلة بداية فعلية للرسم عند الطفل، حيث يبدأ بإنتاج علامات على الورق باستخدام أدوات بسيطة كالأقلام الشمعية أو الطباشير. ومع أنها تبدو عشوائية للبالغين، فإنها تُعبّر عن تطور مهم في فهم الطفل للسبب والنتيجة: عندما يُحرك يده، يترك أثراً على الورق.

أنواع الخربشات:

• الخربشة العشوائية: حركات غير مقصودة، استكشافية.

• الخربشة المُتحكم بها: يبدأ الطفل في ملاحظة تأثير حركاته على الورق.

• الخربشة المُسماة: يشرع الطفل في إعطاء معاني لرسوماته مثل “هذه أمي”، حتى وإن لم يكن الرسم مطابقًا للواقع.

السمات:

• غياب التنظيم المكاني.

• استعمال الألوان بشكل عشوائي.

• بداية تطور التناسق العضلي بين اليد والعين.

3. المرحلة الرمزية (من 4 إلى 7 سنوات)

تُعد هذه من أهم المراحل في تطور الرسم عند الطفل، حيث يبدأ بإدخال الرموز لتمثيل الأشياء. في هذه المرحلة، يرسم الطفل أشياء لها معنى بالنسبة له، حتى وإن كانت بدائية في تفاصيلها أو بعيدة عن الدقة الواقعية.

السمات المميزة:

• ظهور ما يُعرف بـ “رسم الرجل الفقاعة” أو “رجل الرأس” حيث يكون الرأس هو الجزء المهيمن في الجسم.

• استخدام الألوان بناءً على التفضيل وليس على الواقع.

• عدم وجود منظور واقعي: قد يرسم الطفل الأشياء الطائرة في الهواء، أو الأشخاص أكبر من المنازل.

الوظيفة النفسية:

الرسم هنا يبدأ في عكس المشاعر والأفكار، ويمكن من خلاله فهم تمثلات الطفل لعلاقاته الأسرية ومخاوفه ورغباته.

4. مرحلة الواقعية الناقصة (من 7 إلى 9 سنوات)

تُشير هذه المرحلة إلى بداية نضج إدراك الطفل للواقع، ومحاولته تقليد ما يراه في بيئته. يبدأ الطفل بإضافة التفاصيل الدقيقة إلى رسوماته، ويظهر لديه اهتمام بالعناصر الواقعية كالملابس، النوافذ، النسب بين أعضاء الجسم، والحركة.

السمات المميزة:

• تحسن في استخدام الفضاء المكاني في الرسم.

• تطور واضح في تنظيم عناصر الرسم على الورقة.

• محاولة تمثيل الأبعاد الثلاثية بشكل بدائي.

• زيادة في استخدام الألوان الواقعية.

5. مرحلة الواقعية الزائدة أو النمطية (من 9 إلى 12 سنة)

في هذه المرحلة، يتجه بعض الأطفال إلى المثالية في الرسم ويحاولون إنتاج صور أكثر واقعية، بينما يتجه آخرون إلى رسم الأنماط بشكل متكرر نتيجة لعدم رضاهم عن مستواهم الفني أو لتأثرهم بما يرونه في محيطهم من رسومات جاهزة.

السمات المميزة:

• تزايد الوعي بالنسب والظلال والمنظور.

• ظهور الحس النقدي الذاتي: يشعر الطفل بعدم الرضا أحيانًا عن رسوماته.

• رسم الشخصيات بخلفيات وسياقات أكثر تعقيدًا (مثل مشهد كامل).

• استعمال الألوان بشكل أكثر دقة ووفقًا للواقع.

6. مرحلة الإدراك الحسي والتعبير الفني (من 12 سنة فما فوق)

يبدأ المراهق في استخدام الرسم كوسيلة للتعبير الفني والنفسي والفلسفي. تختلف الاتجاهات في هذه المرحلة حسب الشخصية والخلفية الثقافية، وقد يظهر الميل نحو التعبير الرمزي، التجريدي أو الواقعي الدقيق.

السمات المميزة:

• ظهور الأساليب الفردية المميزة في الرسم.

• القدرة على دمج المشاعر والمعاني المجردة.

• استخدام تقنيات مختلفة: الظل، العمق، الإضاءة.

• تطور واضح في المهارات التقنية.

جدول يوضح مراحل تطور الرسم والسمات المرتبطة بكل مرحلة

دور الأهل والمعلمين في دعم تطور الرسم

يمكن للراشدين تسريع ودعم نمو الطفل الفني من خلال:

• توفير بيئة محفزة: تقديم أدوات متنوعة للرسم، وتخصيص وقت منتظم للرسم.

• الامتناع عن النقد السلبي: النقد في مراحل مبكرة قد يُثبط من ثقة الطفل بنفسه.

• طرح أسئلة مفتوحة عن الرسم: بدلًا من الحكم عليه، يُسأل الطفل عن تفسيره لرسوماته.

• تعزيز التنوع في التجربة البصرية: زيارة معارض، كتب مصورة، الطبيعة.

• المشاركة العاطفية: إظهار الاهتمام والاحتفاظ برسومات الطفل يعطيه دافعًا معنويًا.

الرسم كأداة تشخيصية نفسية وتربوية

اعتمد علماء النفس رسومات الأطفال كوسيلة لتشخيص الحالات النفسية، مثل القلق، العدوانية، أو التعلق الأسري. من أشهر أدوات التشخيص: “اختبار رسم الأسرة” و”اختبار رسم الشخص”، حيث يُحلل الخبراء التناسب، الوضعيات، الألوان، والمساحات الفارغة لفهم مشاعر الطفل وصراعاته.

كما تستخدم رسومات الأطفال في الكشف عن صعوبات التعلم أو اضطرابات النطق والتواصل، إذ إن الرسم يسبق التعبير اللغوي، ويمكن أن يكشف عن صعوبات معرفية أو عصبية مثل التوحد أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.

الخاتمة

يمثل الرسم مسارًا نمائيًا دقيقًا يُعبّر عن تطور الطفل الحركي، المعرفي، والانفعالي. تتبع مراحل تطور الرسم ليس فقط مفيدًا للمعلمين والأهل لفهم الأطفال بشكل أعمق، بل يُعد أداة تشخيصية وعلاجية مهمة. دعم الطفل فنيًا وعاطفيًا في هذه المراحل، دون فرض معايير خارجية عليه، يُسهم في بناء شخصية متزنة ومبدعة قادرة على التعبير الذاتي والابتكار.

المراجع:

• Kellogg, R. (1969). Analyzing Children’s Art. Mayfield Publishing Company.

• Lowenfeld, V., & Brittain, W. L. (1987). Creative and Mental Growth. Macmillan Publishing.